محاضرات في علم الإجرام محمد الساسي_الجزء الثاني -->
طلاب القانون طلاب القانون
الاخبار

آخر الأخبار

الاخبار
جاري التحميل ...

محاضرات في علم الإجرام محمد الساسي_الجزء الثاني

تدریس علم الإجرام:
محاضرات في علم الإجرام محمد الساسي_الجزء الثاني

في فرنسا،وقبل سنة 1954 كان أساتذة القانون الجنائي أحرار في
إختیار الحیز والطریقة اللذین یخصصان لتقدیم معلومات عن علم
الإجرام ضمن مادة القانون الجنائي نفسھا.
وأحدثت شھادة للعلم الجنائي في باریس سنة 1905 تولوز سنة
1906 ، وتمكن خلالھا علم الإجرام احتلال مكان ھامة ضمن مواد تلك
الشھادة، وظھرت معاھد العلم الجنائي باریس 1906 التي تحولت فیما
بعد إلى معاھد لعلم الإجرام(باریس -لیل-نانسي -ستراسبورغ-لیون-
غرونوبل-إیكس أون برفانس -مونبولي-تولوز -بوردو -بواتیي -تور).
ومع إصلاح سنة 1954 ،دخل علم الإجرام ضمن مقرر الإجازة في
الحقوق في إطار مادة القانون الجنائي وعلم الإجرام، وبحلول عام
1962 أصبحت ھناك مادة مستقلة تحمل إسم(علم الإجرام وعلم العقاب)
في السنة الثالثة من سلك الإجازة،وتوالي الإھتمام بعلم الإجرام من
خلال إحداث شعب لھ في مستوى السلك الثالث.
وأنشأت وزارة العدل الفرنسیة مركزاً للأبحاث الجنائیة والعقابیة،
وتساھم كلیات الحقوق الفرنسیة في المؤتمر الفرنسي لعلم الإجرام
الذي ینعقد كل سنة منذ سنة 1960 ، تحت إشراف الجمعیة الفرنسیة
لعلم الإجرام.
أما في المغرب،فلقد أُخلدت مادة علم الإجرام لأول مرة في مقرر الإجازة
في الحقوق بمقتضى إصلاح سنة 1978 ، ثم تكرس الأمر فیما بعد،وقد
كان نظام الدراسة والإمتحانات في السلك الثالث من القانون الخاص
یفرد شھادة للدراسات العلیا في العلوم الجنائیة، ویوجد علم الإجرام
كمادة مستقلة من مواد ھذه الشھادة.
ولا یوجد في المغرب أي معھد للدراسات الجنائیة أو مركز للبحث
المتخصص في علم الإجرام،إلا أن باب الدراسات الجنائیة المتخصصة
لما بعد الإجازة فتح من خلال النظام الجدید للماستر في بعض الكلیات،
وقد تضمن الخطاب الملكي الملقى یوم 20 غشت 2009 بتطوان،
بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب،إعلانا بضرورة تأسیس
مرصد وطني للإجرام،حیث ورد بالخطاب ما یلي 'نھج سیاسة جنائیة
جدیدة،تقوم على مراجعة وملاءمة القانون والمسطرة الجنائیة،
ومواكبتھا للتطورات،بإحداث مرصد وطني للإجرام،وذلك في تناسق مع
مواصلة تأھیل المؤسسات الإصلاحیة والسجنیة''.
وجدیر بالذكر أن بناء علم الإجرام تأسس باديء ذي بدء على قاعدة
المدارس العلمیة المفسرة للسلوك الإجرامي، ثم أفضى التفاعل بینھا
إلى وضع مناھج عامة لعلم الإجرام وتتویج ذلك بتطبیقات أمكن عبرھا
الإلتزام أكثر بالضوابط المطلوبة في البحث العلمي.
ولذلك سنقسم دراسة المادة إلى فصلین:
-الفصل الأول: نشأة المدارس العلمیة المفسرة للسلوك الإجرامي.
-الفصل الثاني: التطور اللاحق لمناھج علم الإجرام وتطبیقاتھا.
الفصل الأول: نشأة المدارس العلمیة المفسرة للسلوك الإجرامي:
یتعلق الأمر ھنا بثلاثة أنواع من المدارس، وھي المدارس التكوینیة،
والمدارس السوسیولوجیة، والمدارس النفسیة، وسنخصص لكل نوع
فرعا مستقلا.
-الفرع الأول: المدارس التكوینیة:
رائد ھذه المدرسة ھو سیزار لومبروزو، وھي مدرسة تقوم أساسا على
الربط بین السلوك الإجرامي والتكوین العضوي للجاني.
وسنعرض في مبحث أول مجمل أفكار لومبروزو، ثم سنقدم في مبحث
ثان أھم ما بوشر في حق ھذه الأفكار من تقییم، وما كان لھا من آثار
على مسار علم الإجرام.


-المبحث الأول: أساس النظریة اللمبروزیة
تعتمد الأطروحة اللمبروزیة على وجود علاقة وطیدة بین الفعل
الإجرامي الذي یباشره الجاني ووجود ''خلل'' في تكوینھ العضوي،جعلھ
في حالة استعداد مسبق لإتیان السلوك الإجرامي،وھذا الخلل یھم
جانبین:
-1 وجود تشوه على مستوى أعضاء الجاني.
-2 وجود إضطراب أو عدم انتظام في طریقة عمل الأعضاء،أي طریقة
آدائھا لوظائفھا.
وقد كان دیلا بورتا قد سبق إلى زرع البذور الأولى للمقاربة اللمبروزیة
من خلال كتاب صدر في 1568 یحمل عنوان ''مطول في علم الفراسة
والھیئة'' ویذھب إلى وجود علاقة بین شكل الإنسان وتكوینھ،وخاصة
على مستوى الوجھ،وارتكاب الجریمة، فالجاني یحمل علامات خارجیة
أو تكوینا فزیولوجیاً مختلفا عن الآخرین،فھناك سمات خاصة للعینین
والجبھة والأذن وھناك خلل في النمو الطبیعي للمخ والدماغ.
أما لمبورزو فقد رأى أن النور في فیرونیا بإیطالیا من أبوین یھودیین،
وتابع دراستھ في الطب،ومارس المھنة بعد التخرج في الجیش، كما
عمل كطبیب وأستاذ محاضر في الطب الشرعي،وفي العام 1876 أصدر
لمبروزو كتابھ الشھیر الإنسان المجرم في 252 صفحة، وكان آنذاك
أحد أشھر علماء الإجرام، وأحد المتأثرین بنظریة داروین،وقد اعتبره
البعض مؤسس علم الإجرام،وعلى كل فإن كتابھ فتح الباب مشرعا أمام
ورشة للتفكیر العلمي والبحث في تفسیر السلوك الإجرامي،وأجبر
الجمیع على الإنتباه إلیھ والتفاعل مع أفكاره،وقد وفّر لمبروزو لنفسھ
بسرعة قیاسیة عدداً كبیرا من المریدین والتلامذة الذین یرددون أفكاره،
ویحللون أثرھا الباھر على مسیرة البحث والنظر في عوامل الظاھرة
الإجرامیة،وأنشأ لمبروزو بمعیة وجھین بارزین من بین طلبتھ،وھما
فیري وكاروفالو،مجلة علمیة مختصة بالطب النفسي والأنتروبولوجیا
الجنائیة،وساعد تعاون لمبروزو مع ھذین الرجلین رغم تكوینھما
القانوني في انطلاق مسلسل المؤتمرات والمناظرات القطریة الدولیة
التي تُعنى بالدراسة في مجال علم الإجرام والأنتروبولوجیا
الجنائیة،وكانت ھذه المؤتمرات تعرف حضور أطباء نفسانیین وأطباء
الطب الشرعي ومتصرفي المؤسسات السجنیة وقضاة وأساتذة...إلخ
وأمضى لمبروزو وقتا طویلا من حیاتھ في فحص أجسام وجماجم الجناة
600 جانح حي و 383 جانح میت)،إلا أن ھناك على وجھ الخصوص )
ثلاث حالات، كانت بمثابة الشرارة التي حرّكت لدیھ دینامیة التفكیر في
بناء نظریتھ.لقد تولى لمبروزو فحص جمجمة أحد عتاة المجرمین
واسمھ فلیلا، وانتبھ إلى أن جمجمتھ تحمل تجویفا في مؤخرتھا من
النوع الذي یوجد لدى القردة وبعض الطیور،واستنتج أن المجرم یحمل
نوعاً من التخلف العضوي الذي یعود بھ فیزولوجیا إلى حالة الإنسان
البدائي،فالمجرم ھو وحش بدائي.
واھتم لمبروزو أیضا بحالة فرسیني الذي قتل 20 امرأة وشرب
دمھن،وبحالة مِسدیا وھو جندي ودیع كان مصابا بالصرع، ونظرا لكون
أحد رؤسائھ أبدى سخریة من المنطقة التي ینحدر منھا،ھاج الرجل
وقتل ثمانیة من زملائھ،ودخل في غیبوبة لمدة 12 ساعة لم یتذكر
بعدھا أي شيء مما جرى،المجرم حسب لمبروزو إنسان بدائي،لم
یواكب جسده التطور الذي حصل للإنسان عموما،فالمجرم یعاني من
تخلف تكویني یجعلھ نسخة من الرجل البدائي، وھذا الأخیر یتسم
بسمات عضویة معروفة،تجعل منھ مجرما بالولادة كما سماه
فیري،وھذا المجرم لھ صفات موروثة،تتلخص إجمالا في:
-جمجمة صغیرة.
-فكان فخمان.
-شفتان غلیظتان ومندلقتان.
-جبھة ذات غصون وغیر مسطحة.
-ذراعان طویلان.
-شعر كثیف.
-فرطحة أو إلتواء الأنف.
-عدم انتظام تركیب الأسنان.
-دقن متراجع.
وبالنسبة للخصائص السیكولوجیة للمجرم فھو یتسم ب:
-البرودة والقسوة.
-عدم الإحساس بآلام الآخرین.
-غیاب الندم.
-الإندفاع.
-الأنانیة
-تقلب المزاج
-التطیر.
-لغة خشنة وبذیئة.
-المیل إلى وضع وشم على جسده...إلخ.
إن المجرم یرمز إلى نوع من التقھقر الذي جعلھ لا یواكب التطور الذي
حصل في فصیلة البشر وجعل ھؤلاء یبتعدون عن الفصائل الأخرى،وھو
یصنع ما كان یفعلھ البدائیون عندما یسرقون ویقتلون ویحولون
أجسامھم إلى صفحات لرسومات بواسطة الوشم،والمجرم لا یمكن أن
ینضبط لمتطلبات التحضر،لأنھ یحمل سمات الإنسان الذي لم یعرف
درجة التحضر التي وصلھا الإنسان الیوم،فالجریمة حسب لابادي ''ھي
انتماء للماضي''.
إلا أن لمبروزو طور نظریتھ فیما بعد، وظل یضیف وینقح ویغني
الطبعات الجدیدة لكتابھ،وتوصل إلى وجود أنواع مختلفة من
المجرمین،فبالإضافة إلى المجرم بالفطرة أو المیلاد،ھناك أیضا:
-المجرم الصرعي الذي یشكو من الصرع الوراثي الذي یؤثر على حركة
الأعصاب والدماغ.
-المجرم المجنون الذي یعاني من مرض نفسي أو یندفع إلى الجریمة
بتأثیر المخدرات والكحول.
-المجرم السیكوباتي الذي یحمل سمات عدم التكیف مع المجتمع،فیرتكب
الجریمة بسبب ذلك.
-المجرم بالصدفة الذي تقوده إلى الجریمة ظروف طارئة أو یقترف
الجرائم غیر العمدیة أو الإصطناعیة أو الناجمة عن أوضاع فیھا ضغط
خارجي.
-المجرم الإعتیادي الذي یحول نشاطھ الإجرامي إلى مھنة یتعیش
منھا،ویتعود علیھا،ولا یستطیع بسھولة مغادرتھا إلى مھنة شریفة.
-المجرم العاطفي الذي یقع في الجریمة تحت تأثیر عاطفة جیاشة كالحب
أو الغیرة أو الإنفعالات العابرة أو التأثر الشدید بمذھب أو رأي أو
موقف.
وفي إطار تطویر لمبروزو لأفكاره،خلص إلى أن المجرم إنسان منحل
''افتقد الصفات التي من النوع الإنساني تحت تأثیر عوامل معینة
كالإدمان على الكحول والمخدرات والجو غیر السلیم''.
ومن خلال دراستھ المتأخرة،استعرض لمبروزو عوامل متعددة
للجریمة،مثل المناخ،الفقر،أسعار المواد الغذائیة،الكحول،الحضارة
الھجرة ،العرق،التربیة،السجن،العصابات الإجرامیة والبطالة،أي عملیاً
كما یقول كوسان ''كل شيء أو تقریبا كل شيء أصبح وارداً''، ولیس
معنى ھذا ھجر فكرة ''المجرم بالمیلاد'' ولكن جعلھا تتساكن مع الحالات
الأخرى.
المبحث الثاني: تقییم النظریة اللمبروزیة
ھناك تسلیم لدى العدید من علماء الإجرام،بأن سیزار لمبروزو من خلال
نظریتھ،خدم علم الإجرام من خلال زاویتین على الأقل:
-1 فھو من جھة،وجّھ انتباھھ إلى دراسة المجرم،ولم یقتصر على
دراسة الجرم،واھتم بإبراز جوانب كانت مجھولة في الماضي،ولم تكن
تحضى بالقدر اللازم من الدراسة والتمحیص.
-2 ومن جھة ثانیة ،اعتمد على المنھج العلمي،فلم یبقى حبیس
الإفتراضات الذھنیة والأحكام المسبقة،بل استعمل الفحص السریري
التشریحي والملاحظة.
إلا أن المدارس التكوینیة على العموم تعاني ربما من تناقض بارز،ففي
الحالة التي نكون فیھا أمام شخص یحمل علة في جھازه العصبي
والنفسي،فنحن أمام ''مریض'' ولسنا أمام ''مجرم'' ،فكیف نسمح
لأنفسنا باستخدام ھذا المصطلح الأخیر على أناس یشكون من حالات
باطولوجیة، یفترض أن یحال صاحبھ على العلاج والمتابعة الطبیة ،وأن
یتم البحث عن وسائل علاجھ أو التخفیف من معاناتھ والحد من آثار
مرضھ.
أما النقد الذي وجھ إلى نظریة لمبروزو ،فقد انصبّ على جوانب متعلقة
بالمنھجیة المعتمدة،وجوانب متعلقة بالنتائج المستخلصة.ففیما یتعلق
بالمستوى المنھجي عِِیب على لمبروزو ما یلي :
-1 محدودیة عدد أفراد العینة التي اعتمدھا في أبحاثھ،فقد خرج
بخلاصات خطیرة ،ذات عواقب بالغة انطلاقا من دراسة شملت 400
مجرم میت،و 600 مجرم حي.
-2 ارتباط بعض الحالات التي وضعھا تحت مشرح البحث بالجرائم
العنیفة والخطیرة،فقد فحص أجساد وجماجم عتاة المجرمین ومن
مرتكبي القتل والعنف الوحشي،ولیس ھذه الحالات ھي الغالبة وسط
مجتمع المجرمین.
-3 إغفال اللجوء إلى المجموعة الضابطة،وذلك باختیار عدد محدد من
المجرمین كموضوع لدراسة اختیار نفس العدد من الأشخاص الذین لا
علاقة لھم بالإجرام،ومقارنة الإستنتاجات المتوصل إلیھم بالنسبة لكل
من المجموعتین اللتین كانتا موضوعا للفحص والدراسة، لقد قصر
لمبروزو استعمال ھذه التقنیة على حالات إجرام النساء فقط.
-الھالة التي أحاط بھا لمبروزو،اكتشافاتھ الأولى المثیرة،والإستباق
بإعلان نتائج مبنیة على وقوعھ بالصدفة على حالة أحد قطاع الطرق
الذي وجد أن جمجمتھ تحمل بعض السمات غیر العادیة ذات صباح من
أیام دجنبر 1870 ، ومتلا ذلك من إندفاع في الخروج بخلاصات بطریقة
إنفعالیة،مع العلم بأن الفحوص التي أجراھا لمبروزو كانت في الكثیر
من الأحیان تلجأ إلى المشاھدة بالعین المجردة،وتفتقر إلى الدقة.
وقد اضطر إلى تغییر الكثیر من أفكاره الأولى،مما یظھر أنھ لم یكن قد
أحاط دراستھ وأبحاثھ بالقدر المطلوب من الإحتیاط والتریث وانتظار
اختمار الأفكار ونضجھا.
وفیما یتعلق بمستوى النتائج المتوصل إلیھا من طرف لمبروزو،فإنھا
واجھت نقداً بني أساساً على العناصر التالیة:
-1 عدم إعطاء العوامل الإجتماعیة حقھا من الدراسة والتحلیل،فرغم أن
لمبروزو أوردھا لكنھ تجاھل ربما أھمیتھا ونسبة تدخلھا.
-2 عدم سلامة الطرح القاضي بوجود مجرم بالفطرة،محكوم بنوع من
القدریة الجنائیة،بغض الطرف عن جمیع العناصر الأخرى المرتبطة
بظروف الزمان والمكان.
-3 خلوص الفكرة القائلة بأن المجرم یمثل حالة ارتداد بدائي،من الناحیة
العلمیة إلى نتیجة مؤداھا أن المجتمع البدائي كان مجتمعا من
المجرمین،وھو ما لا یقبلھ العقل.
-4 تَوصُّل بعض الدراسات اللاحقة،التي تقیدت بأصول البحث العلمي
وبصرامة منھجیة إلى نتائج تخالف جذریا ما توصل إلیھ لمبروزو.
وأبرز مثال على ذلك، المجھود الجبار الذي قام بھ العالم الإنجلیزي
شارل جورنج ،الذي قارن بین عدد كبیر من السجناء( 300 سجینا)
ونفس العدد من المواطنین الإنجلیز غیر السجناء،واستعمل أدوات
للفحص الدقیق والمتأنّي،منطلقا من قیاس 37 عنصراً لھ علاقة بالجانب
الفزیولوجي و 6عنصراً لھ علاقة بالجانب النفسي لدى الأفراد
المبحوثین،واعتمد جورنج على ما استجد في علم الإحصاء لتسجیل
الفروق التي تفرزھا المقارنة،وكانت الحصیلة ھي عدم وجود فروق
''دالة إحصائیا'' بین السجناء وغیر السجناء،وأن وجود الجمجمة
الصغیرة لا یعني أن صاحبھا یعاني بالضرورة من تخلف عقلي،وأن
المریض بالصرع لا یتحول تلقائیا إلى مجرم.
ھناك فقط بعض التمایزات البسیطة،وھي تھم القامة والوزن ومعامل
الذكاء،إذ لوحظ أن السجناء كانوا أقل من حیث الطول والوزن ومعامل
الذكاء مقارنة مع نظرائھم،أما سمات الجمجمة فلا ینفرد فیھا المجرمون
بأیة خصائص،وحتى لو وجدت مثل ھذه الخصائص،فكیف نسمح
لأنفسنا بعزوھا إلى فكرة التقھقر البدائي.
وفي النھایة،یلاحظ أن لمبروزو ،وإن كان قد طور أفكاره،وغیر بعض
أسسھا فإن إسمھ ظل ملتصقا بفكرة المجرم بالولادة،ولم ینتبھ الكثیرون
إلى أن لمبروزو قد انتقل مثلا من القول بأن حالة المجرم بالولادة تمثل
ما بین 65 في المئة و 70 بالمئة إلى التصریح بعد ذلك،إلى أن ھذه
الحالة تتراوح ما بین 30 إلى 35 بالمئة فقط من مجموع المجرمین...
الفرع الثاني: المدارس السوسیولوجیة
اھتمت المدارس السوسیولوجیة بإبراز أھمیة الدور الذي تلعبھ
الأوضاع الإجتماعیة في صناعة الجریمة،إلا أن تلك المدارس ظلت مع
ذلك موزعة بین توجھین:
-1 توجھ یعتبر أن الوسط الإجتماعي یمكن لھ أن یصنع المجرم،بدون أن
یكون ھذا الأخیر حاملا لأي استعداد مسبق لإرتكاب الجریمة.
-2 توجھ یعتبر أن الوسط الإجتماعي إنضاف إلى عوامل أخرى،یجعلھا
ذات قابلیة لحسم دخول صاحبھا عالم الجریمة،فدور الوسط الاجتماعي
حسب ھذا التوجھ ھو تحریك العناصر التكوینیة للشخصیة والتأثیر
علیھا وتحویل من توفرت فیھ إلى مجرم.
ویمكن لنا الجزم بأن الإسھام العلمي الأساسي الذي سیشكل المادة
الأساسیة للمدارس السوسیولوجیة،جاء على ید أنریكو فیري الذي
عاش من 1856 إلى سنة 1929 ،والذي كان أستاذا للقانون الجنائي
في روما وتوران،وأظھر قدرة فائقة على التركیب.
المبحث الأول: فیري وقوة التركیب
ینطلق فیري من أن المجرم ھو ثمرة عوامل متداخلة ومتظافرة،تمارس
تأثیرات مختلفة ومتنوعة علیھ،وتدفع بھ إلى ارتكاب الجریمة،وھي
عوامل تنبع من ''داخل'' المجرم نفسھ ومن طبیعة تركیبتھ
الفزیولوجیة،وعوامل تأتي من خارج بنیتھ الجسدیة والنفسیة الأصلیة:
-1 الداخل: نقصد بھ جسم المجرم قبل أي تفاعل مع الخارج،وما یرتبط
بھ من صفات وأوضاع تكوینیة وأصلیة،كالعیوب الخلقیة والإختلالات
العضویة،(مستوى الذكاء والسمات العاطفیة والنفسیة مثلا) ونقصد بھ
أیضا كل ما یتعلق بصفات الفرد كجنسھ وسنھ وطبیعة شخصیتھ.
-2 الخارج: نقصد بھ مجموع الظروف المحیطة بالفرد،سواء تعلق
الأمر بمعطیات ثابتة أو متغیرة،وھي:
أ-المعطیات الطبیعیة:كالمناخ والطقس وطبیعة التربة،والأحوال الجویة
والمحصول الزراعي...
ب-معطیات الوسط:كالكثافة السكانیة والعادات الدینیة وأوضاع الأسرة
والتربیة والإنتاج الصناعي والتنظیم السیاسي وحالة الرأي العام ومدى
تعاطي الكحول...
وبحسب تأثیر كل عامل من العوامل السابقة،یمكن أن نتوصل إلى تحدید
تصنیف للمجرمین،فھم ینقسمون إلى خمس فئات،إثنتان منھما تخضعان
لتأثیر العوامل الأنتروبولوجیة وثلاث منھا تخضع لتأثیر عوامل الوسط
الإجتماعي.
ولا یمكن أن نتعامل مع كل الجانحین بنفس الطریقة،فحسب فیري علینا
أن نعمل على إقصاء وتحیید المجرم الإعتیادي والمجرم بالولادة
والفطرة،وعلینا أن نعمل على ضمان إعادة الإدماج الإجتماعي بالنسبة
للمجرم بالصدفة،وعلینا إجبار المجرم العاطفي على تعویض الأضرار
التي خلفتھا فعلتھ.
إن فیري قد ساھم أساساً في إخراج علم الإجرام من الإنغلاقیة التي
سادت من قبل،والتي تظھر من خلال محاولة ربط الإجرام بالتأثیر
الحاسم لعامل واحد في جمیع الأوضاع والظروف بالنسبة لجمیع
المجرمین،وبفضل مجھود فیري،تم الإنتقال إلى مقاربة جدلیة وتركیبیة
تعترف بتأثیر العوامل المختلفة في انتاج الظاھرة الإجرامیة،فالجریمة
تنبع من أصول وعوامل مرتبطة بالتكوین العضوي والنفسي للفرد أو
بتأثیر العوامل الإجتماعیة او الطبیعیة،وقد أدت المقاربة الجدیدة إلى
التفكیر في تفرید الجزاء الجنائي وملائمتھ مع ظروف وأوضاع كل فئة
من فئات المجرمین الذین تم تصنیفھم حسب نوع العامل الذي لعب
الدور الحاسم في إجرامھم.
المبحث الثاني:المدرسة الجغرافیة
إن المدرس الجغرافیة أو الخرائطیة قد ظھرت قبل ظھور أعمال
ودراسات فیري ویعود الفضل في إنشائھا إلى كل من البلجیكي كیتلي
.(1866- 1874-1796 ) والفرنسي جیري ( 1802 )
لقد انكبّ الرجلان على دراسة وتحلیل المعطیات الإحصائیة عن الجریمة
التي ظھرت لأول مرة في فرنسا،وسجلا ظاره استقرار وثبات
الجریمة،ولكنھما سجلا خلاصة أكثر إثارة للانتباه،وھي أن الجرائم ضد
الأشخاص تكثر في المناطق الجنوبیة وفي الفصول الحارة،بینما الجرائم
المرتكبة ضد الأموال تكثر في المنطق الشمالیة وخلال الفصول
الباردة،وبذلك فإنھما أبرزا دور العوامل الجغرافیة والطبیعیة في ارتكاب
الجریمة،وازدھرت نظریتھما على الخصوص خلال القرن التاسع
عشر،إلا أن النسیان طواھا بعد فترة انتعاش،بسبب الأثر القوي الذي
خلفتھ أطروحات لمبروزو،والتي سیطر موضوعھا على نقاشات
المھتمین بالدراسات الجنائیة.
في القرن التاسع عشر،أصبح الإجرام موضوع تتبع ورصد
علمیین،وأصبح الدارسون یتحدثون لغة الأرقام،واعتنت عدد من
الحكومات كالفرنسیة والبلجیكیة والإنجلیزیة بإنشاء مرافق حكومیة
مختصة بجمع الإحصائیات المتعلقة بعدد المعتقلین والمدانین،وقد نشر
التقریر العام لإدارة العدل الجنائیة لأول مرة سنة 1827 ،وأصبح
بالإمكان التوفر على معطیات إحصائیة منجزة بصورة منھجیة على
امتداد التراب الوطني الفرنسي،وفي سنة 1833 أصدر جیري (محاولة
في الإحصاء الأخلاقي بفرنسا) ثم أصدر كیتلي فیما بعد،أي سنة 1835
مؤلفھ العنون ب''الفزیاء الإجتماعیة''،واعتمد الباحثان معا على
استنطاق الأرقام،واستخرج كیتلي نسبا عن المیل إلى الجریمة لدى
مختلف الفئات،وعالج مثلا علاقة الجریمة بمتغیر السن،وھكذا توصل
إلى أن منحنى الجریمة یرتفع بسرعة في فترة البلوغ حتى یصل إلى
حده الأقصى،ثم ینخفض ببطء حتى نھایة حیاة الإنسان،فمع تطور
القدرات العضلیة للإنسان یزداد المیل إلى الإجرام،ومع تراجع تلك
القدرات ینخفض المیل.
أما جیري فقد استرعى انتباھھ،أن الجریمة في فرنسا بمختلف مناطقھا
ما بین 1825 و 1830 ظلت مستقرة ولا تعرف إلا تغیرات طفیفة على
امتداد السنوات،لا تتعدى في الإجمال نسبة 4 بالمئة زیادة أو
نقصانا،ونفس الملاحظة تشمل نسب ارتكاب الجریمة ما بین الذكور 78
بالمئة والإناث 22 بالمئة مع نسبة تغیر أیضا لا تتعدى 2 بالمئة زیادة
أو نقصانا، وترتیب الجرائم أیضا ظل واحدا في كل سنة،فما لم تقع
تغیرات ذات شأن على مستوى المجتمع،فإن حركیة الجریمة تظل
مشدودة إلى نفس العوامل وخاضعة لنوع من الإنتظام الذي یجعل
أرقامھا متناسبة مع ما یعرفھ المجتمع من حالات الولادة والوفاة
والزواج.
وتوصل كیتلي وجیري إلى خلاصة غیر متجاوبة مع الإنطباع السائد
الذي یجعلنا نتصور أن العلاقة وطیدة بین الفقر والجریمة،فالقطاعات
الأشد فقرا في فرنسا ھي التي تشھد نسبة أقل من الجرائم المرتكبة ضد
الأموال،ویخلص الباحثان إلى أن الإجرام مرتبط أكثر بالإنتقال الفجائي
من الفقر إلى الثروة أو العكس،وبالتفاوت القائم في ذات البیئة،حیث
یكون منظر الثراء الفاحش مستفزا بالنسبة لمشاعر فقراء یعیشون
شظف العیش ولا یجدون ما یسدون بھ رمقھم.
المبحث الثالث: المدرسة الإشتراكیة:
لقد تولى كل من ماركس وانجلز إبراز أھمیة العامل الإقتصادي كمحدد
لعدد من السلوكات وكموجھ لعدد من الأنشطة الحیاتیة الأخرى،واعتبرا
أن القانون یمثل البناء الفوقي،أما الإقتصاد فھو یمثل البناء التحتي
،وھذا الأخیر ھو صاحب الدور الحاسم في رسم مسار المؤسسات
والبناء الفوقي،ولذلك فإن ھناك علاقة وطیدة بین الوضع الإقتصادي
وبین الجریمة.
الجریمة حسب المدرسة الإشتراكیة، ھي ثمرة النظام الرأسمالي وأحد
نتائجھ البارزة،فالظلم الإجتماعي واستغلال الإنسان لأخیھ الإنسان یولد
ضحایاه ردود فعل ضد من یستغلونھم،ویدفع إلى ارتكاب الجریمة،فھذه
الأخیرة بعض من الأوجھ ھي جواب على أوضاع الظلم الإجتماعي.
وفي المجتمع الإشتراكي الذي تنتفي فیھ علاقات الإستغلال والإضطھاد
تتجھ الجریمة نحو الإنقراض، أو تنزل إلى أدنى حد ممكن،لأن الإشباع
الذي یحققھ النظام الإشتراكي للناس،یفضي إلى زوال الأسباب الدافعة
إلى الجریمة،إذ لا یمكن أن نتصور أن یثور الناس ضد سعادتھم،وإذا ما
حصلت بعض الجرائم فھي تكون ناتجة عن مرض عضوي أو نفسي.
وقد أبرزت بعض الدراسات ،كتلك المنجزة من طرف المفتش العام
للسجون ببلجیكا،كیف أن انتشار البؤس یؤدي إلى انتشار الجریمة خلال
المرحلة الزمنبیة ما بین 1856 و 1857 ،كما أن ارتفاع أسعار القمح
أفضى إلى ارتفاع الإعتداءات الواقعة على الأموال مقارنة بالإعتداءات
الواقعة على الأشخاص.
إن الجریمة حسب التصور الإشتراكي ھي انعكاس للصراع الطبقي،وقد
أصدر عالم الإجتماع الھولندي ولیام بونجیر كتابا بعنوان ''الجریمة
والأوضاع الإقتصادیة''،دافع فیھ عن أطروحة إفضاء الملكیة الفردیة
والتفاوت والإستغلال إلى وضع:
-یحس فیھ الأغنیاء بالسطوة والنفوذ والإستعلاء والإستقواء على
الآخرین واحتقارھم.
-ویحس فیھ الفقراء بالحقد والكراھیة والتعاسة والظلم.
فیرتكب كل منھما أنواعا من الجرائم التي تترجم ھذه الأحاسیس،فلكل
طبقة جرائمھا،فجري الرأسمالیین خلق الربح وخدمة مصالحھم بأیة
طریقة یدفھم إل التماس طرق مناورة وغیر شرعیة لإشباع تعطشھم
إلى تنمیة ثرواتھم،فیرتكبون الجرائم الإقتصادیة.
والمرارة التي تتجرعھا الطبقات الأخرى والضغط الممارس علیھا
والإملاق والفقر وضیق ذات الید ومشاعر الغضب،كل ذي یغدي نزعات
العنف والإنتقام والإعتداء على الأموال،والجرائم السیاسیة التي تحركھا
الرغبة في تغییر الأوضاع.

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

مدونة طلاب 2019

زوار المدونة

احصاءات المدونة